البروفيسور الملاعبة يكتب: البادية الأردنية.. لوحة مستحيلة التكرار

*بقلم أ.د. احمد ملاعبة

مهما كانت اللوحات الفنية الجميلة التي رسمها الرسامون بأناملهم وريشهم الأنيقة ومهما بلغت روعة الصور الفوتوغرافية والتي يمكن أن تعطي الطبيعة قسمات جميلة.

حتى لو كثرت الخرائط بأنواعها وانتشرت الكتب بوصف جماليات البادية الأردنية إلا أته لا يمكن تكرار لوحة البادية الأردنية ولا وضعها في مجلد أو موسوعة شاملة ولا يمكن جمعها بصورة أو مشهد واحد… لأن لكل صيره فيها حكاية وكل واد يخترقها فيه اثر للأمم الخالية وعلى رأس كل رابية فيها قصة ورواية وقد انتشر الشجر والحجر والأثر على قيعانها فهي حافظة الأبجديات ومدونة النقوش والرسوم العتيقة. على أرضها نهضت حضارات وقامت معارك وبطولات ومن خلالها كانت القوافل المحملة بالأمتعة والتوابل والعطور والبخور وفيها تنوع نباتي يعتبر مدرسة في الصبر على الصعاب وحيوانات لا تعرف إلا الثبات عند الشدائد والضائقات رغم كثر المصائد التي انتصب حولها إلا إنها لم تقدر أن توقع بها.

البادية الأردنية بوابة الحضارات ومركز نهضتها. تقع فيها تخوم الإمبراطوريات العظيمة وفيها أيضا قصور مشيدة تقف كالشواهد أعلاما وقد اختلط أديمها بجثامين الذين عاشوا وقضوا فيها. تأسر قلبك اذا عشقتها ولا يستطيع أحد الا أن يعشقها ولكن من الصعب احتواء مشاعرها لتعاظم شأنها… ولا يستطيع العابر مهما كانت براعته أن يخترقها لأنها الشائكة التي تدافع عن نفسها بنفسها وهي التي لا ترمش عيونها الا لمن يبادلها الحب الصادق ورغم أن كل بقعة فيها ناطقة وكل حجر علية ذاكرة لا تمسح أو تتوارى الا أن في مقلتيها ماء عذب وآخر مالح. لعابها شهد يفوح منة العطرفان والنفل والشيح والقيصوم. على محياها كبرياء جمعت أرضها كل أطياف البشر وانتشرت فيها ألوان الفراشات الرائعات والطيور المحلقات. وبراكين شامخة وخامدة لكن متربصة لمن يريد أن يعتدي عليها فتثور عليه وتحرقه.

الانتظار في محاريب مساجدها القديمة فضيلة والسجود على أرضها الطهور عبادة وافتراش أرضها المضخمة بالطيون تمدك بالراحة المخملية. لقد انتشرت فيها القيعان والغدران لتروي عطش ضيوف الرحمن وكثرت فيها المساكن والمخابئ والكهوف لتكون ملاذا لأحرار الوافدين عليها ولكنة من الصعب الانقلاب عليها لان لها وسائلها في الدفاع عن ذاتها. فالضباع المخططة التي لا تعرف الرحمة لا تتوانى عن سحق عظام من يضايقها والفهود تطارد كل من يحاول الاقتراب من بيوتها. فيها النعام أسرع طائر لا يطير ونعامها لا يغمر رأسه بالتراب بل بتحسس بأذنيه وعن بعد نوايا القادمين نحوه وفيها السماحيق (الابل) التي لازالت اخفافها تتحمل كل صلف الحياة تتحدى الحشاد والحماد وهي رفيقة وصديقة بإنسان المكان تحمل الهودج لتزف عروس البادية وتدر حليبا لترضع طفلا وتروي كهلا.

شامخا كل ما في البادية قمم جبالها ورؤوس أكماتها… سميت تلالها بـ “المسما” لسموها وعلوها وارتفع جيدها ليعانق عنان السماء. تتوزع في أرجائها المربات والقيعان والغدران والخويمات والمقاطع والتراكيب البديعة وسراب يخدع أدهى المخادعين. في جوفها أسرار وكهوف ومغاور وانفاق وتراث مادي محفور طبيعي وحضاري وأخر محكي وشفوي مبهر.

إنها اللوحة الجامعة الشاملة التي من الصعب احتوائها ولا حتى تكرارها فهي من تلقاء ذاتها لا تكرر نفسها لأن كثبانها تغازلها الريح فصورة الغد تختلف تماما عن واقع اليوم… إنها اللوحة المستحيلة التي لا تتكرر.